-A +A
عبدالله الرشيد
كثيراً ما نسمع عن شخصية الرحالة العربي الشهير ابن بطوطة، يتردد اسمه في كل مكان، تتسمى به الأسواق والشوارع والأحياء، بل أصبح اسمه وصفاً لمن يكثر من التنقل والسفر والترحال. إلا أن غالب المعرفة الشائعة بين العموم عن شخصية هذه الرحالة لا تتجاوز حدود معرفة الاسم واللقب، دون وعيٍ بحقيقة الجهد العلمي الذي قدمه ابن بطوطة، والمنهج الذي استند عليه، والإرث الذي نحت من خلاله اسمه في التراث العربي، ونقش ذكره في سجلات الرحالة والمؤرخين في تاريخ الفكر الإنساني بأسره.

لم يكن ابن بطوطة مجرد رحالة بين البلدان فحسب، بل يتجاوز أثره إلى أبعاد بالغة تجعلنا نضعه في مصاف الأنثروبولوجيين الأوائل، إذ كان الرجل يتجول في البلدان مفتوح العين والأذن، متقد التفكير والبحث والتساؤل عن أحوال المجتمعات التي يزورها، يكتب تاريخاً موازياً للشعوب، يحلل ويستكشف أطباعهم وعاداتهم، وما يجري داخل بيوتهم، ومن عجيب ذلك أنه أحيانا يتزوج من أهل البلد الذي يزوره حتى يستطيع فهم طبائع نسائهم، وأخلاقهم، وعشرتهم لرجالهم.


إن هذا الجهد الأسطوري الهائل لرجل قضى أكثر من 28 سنة من حياته يتنقل في أجزاء العالم المعروف حينها، حتى قطع ما لا يقل عن 120 ألفاً من الكيلومترات، يدون ويرصد «غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، لا غرابة إذن أن استحق لقب شيخ الرحالين المسلمين على الإطلاق.

إن القصور في الوعي بحقيقة الجهود العلمية العظيمة المستترة خلف الأسماء التراثية الشائعة لا يقتصر على ابن بطوطة وحده، بل الكثير من أعلام ورواد العلوم والفلسفة والأدب والفقه في التاريخ الإسلامي، تشيع أسماؤهم وتنتشر، وتصبح علامات للطرق والمدارس والمباني، يتكرر الاسم كثيراً بين عموم الناس، دون معرفة واعية عن السبب الذي جعل اسم هذا الرجل باقياً خالداً حتى اليوم، وعن الأثر العلمي الذي أحدثه في تاريخ الفكر الإنساني، ينطبق ذلك على شخصيات مثل جابر بن حيان، والكندي، والرازي، وابن سينا، وابن الهيثم، والجزري، وغيرهم.. حتى الشخصيات الدينية من رواد العلوم الشرعية يجري اختزالهم في الإطار الديني في كونهم مصدراً لمعرفة أحكام الدين في الفقه أو في العقيدة أو المناسك والحديث، في المقابل نجد قصوراً وضعفاً في الدراسة الموضوعية المحايدة التي تبحث في الخصائص والمزايا العلمية والاجتماعية والنفسية التي حفظت ذكر ذلك العالم وإرثه وجعلت اسمه ومؤلفاته حية قائمة بعد وفاته بمئات السنين.

هذه الحالة تكشف عن وضع غريب من الاتصال «السطحي» المستمر مع التراث، وفي نفس الوقت انفصال عنه وعن حقيقته. لا عجب إذن أن أصبح التراث عبئاً ثقيلاً على ظهورنا، وصندوقاً مغلقاً ننقله دون أن نتوقف قليلاً، كي نفتحه، ونستكشف كنوزه وأسراره.

إن الدراسة الشمولية الموضوعية التي تحاول أن تفهم جوانب الشخصيات التراثية بكافة أبعادها، وتسبر أغوارها، وتكشف أسرارها، وتحلل خفاياها وخباياها، وتتبع أثرها في تاريخ الفكر والعلم، هي أسلوب مهم لاستيعاب حركة التاريخ وعلوم التراث بشكل أكثر وضوحاً، من خلال ربط الجزئيات بعضها ببعض، وتقديم صورة كلية، وهذا منهج وظفه كثير من المستشرقين وقدموا دراسات مثيرة، جديرة بالاطلاع عن شخصيات ورموز التراث الإسلامي، وأثر هذا النهج لاحقاً في جهود وأعمال الباحثين العرب.

والنماذج على هذا الأسلوب في دراسات المستشرقين كثيرة؛ منها على سبيل المثال الدراسة التي قدمها المستشرق الفرنسي هنري لاووست عن ابن تيمية، في كتابه الشهير «نظريات شيخ الإسلام ابن تيمية في السياسة والاجتماع» الذي صدر عام 1939. وقف الرجل أمام تراث ابن تيمية الضخم، وقدم صورة بانورامية عن حياته وأفكاره وأهم مبادئه، بطريقة مختلفة جديدة في دراسة الشخصيات التراثية، ورغم تقادم الزمن على هذه الدراسة، والملاحظات التي ترد عليها، إلا أنها ما زالت حتى اليوم من أهم الدراسات الشمولية التي تناولت شخصية ابن تيمية بطريقة كلية تعتمد الوصف الموضوعي المجرد.

هذه الطريقة التي تستخدم المناهج العلمية الحديثة في دراسة التاريخ والتراث وتكون غايتها البحث والاكتشاف، وإضاءة النقاط المظلمة، وربط الجزئيات المتناثرة، هي من أهم الأدوات لاستيعاب التراث وفهمه، والتعاطي معه باعتباره حالة علمية متقدة، وحركة فكرية حية، بعيداً عن خطاب التقديس أو التجريح، أو جر صراعات الماضي نحو الحاضر.

ALRrsheed@